الإثنين 29 نيسان 2024

المجتمعُ «حضارةٌ في طريقِ الزوالِ»

الخميس 25 كانون الثاني 2024

لرّبما تكون الحضارة الحاليّة تطغى على العالم بأجمعه، فتساهم في محو حضارة مهمّة كثيرًا هي "حضارة المجتمع". هذا المصطلح يعرّف بالأخلاق والمبادئ والقيم والعادات والتقاليد وشخصية كلُّ كائن اجتماعي! حضارتنا اليوم التي يقال عنها "المجتمع المعاصر" أي الحضارة المعاصرة تسهم في محو "الإنسان"، وصحيحٌ أن التجديد مفتاح استمرار المجتمعات لكنَّ هذا التجديد أزال كلُّ ما هوّ من تقليدي وحلَّ مكانه وليت لو أنَّ التجديد كان فقط في التقنيات والمكتشفات العلمية بل أيضًا ومع الأسف طال المكتشفات الروحية حيثُ يلجأ الناس اليوم فقط إلى الورقة، يتراكضون إلى جنّات السعادة حيثُ الشرور، فكأنّهم يبتلعون كأسًا من الويسكي يجعلهم مخدرّون  لا يدركون خسارة "ذاتهم، ونفسهم وتوازنهم"، اكتُشِفَ فيهم حبَّ المادة والأنانية والمصلحة الشخصية والسعادة التي ما دون مادتها! 

التجديد يبدأ مع الإكتشافات العلمية وخصوصًا الإكتشاف الأكبر "التكنولوجيا" التي تتعدّد تطبيقاته؛ فتُشكَّل فريقًا يغلب الفرد الذي يقابلهم بمفردِهِ، تخسره انتباهَهُ على شخصيّته ومبادئه وثقافته الواسعة خصوصًا في مجال الأخلاق، الوعي والمصطلحات التي تحدّد نظرة الناس إليه في المجتمع. هذه التكنولوجيا قادرة على السيطرة عليه من حيث اللسان، أي هناك بعض المنشورات التي يراها المتابع يوميًا يُمكن أن تحمل معها عبارات قذرة، فيستقيها وترّسخ في ذهنه دون معرفته، ليرى نفسه يقولها في التجمعّات، فتتلاحق العبارات عبارةً ما بعدها عبارة ليُصبح لسانه معلّقٌ عليها، فكأن لسانه مزيجٌ من ثقافة التواصل الإجتماعي وأيضًا ثقافة التواصل الإجتماعي! غريب أليس كذلك؟ فهو سَمَحَ لهذا المزيج بألاّ يكون مزيج مع أحد بل تكون ثقافة الـSOCIAL MEDIA هي ثم هي ثم هي،  فكأن "أنا أو لا أحد" بكلَّ ما لها الكلمة من معنى! كذلك، فإن كان أسلوب الإنسان خليطٌ سحريٌّ من المشاعر والحبّ والقسوة، لتابع ما تنطق به "وسائل التغيير" فرسى على سفينة واحدة، فقد بعض أسلوبه وركزّ على البعض  الآخر، فإن التحق  ببعض التطبيقات وشاهد محتواها ذات هدف واحد، لالتقط هذا الهدف وأصبح عبدًا له، فأنشأهُ إمّا على القسوة إمّا على الإحساس، ومن الصعبِ أن يكون قلب الإنسان دائمًا مرتكز على شيءٍ معيّن، فأسلوبه في التعبير يفقده الكثير والكثير والكثير بسبب توازنه الذي لم يستطع عقله بالمحافظة عليه. مثالٌ على ذلك، إعتبر وكأنّك تشاهد العديد من الأفلام الشرسة وذات مشاهدٍ عنيفة بكثافة ستستقي منها العنف الجسدي واللفظي فتُعبّر طوالَ وجودك على هذه الأرض بهذه الطريقة و تستخدمها لغةً لأسلوبِكَ، على العكس تمامًا فإن شاهدت أفلاماً حساسّةً، فيها البكاء أساس، الدمع أساس و المعضلات النفسية أساس ستستقي الإحساس أللاحدودي، فيُصبِح البكاء لغة أسلوبك و الدمع في حياتك يعرّف عنكَ!

إنَّ هذه المكتشفات قادرة أيضًا على إفقادك كنزٌ من كنوز الحياة وهو إندماجك الإجتماعي فأنتَ، في قضائِك وقتًا على وسائل التواصل الإجتماعي ستضيّع نفسك نائمًا على سريرك، دون تقدّمٍ جسدي وذاتي، بل تقدّمٍ ما وراء الشاشة، تسيطر ثقافة التواصل الإجتماعي على ثقافة الإندماج الإجتماعي، فكلُّ ما استقيته من معايير ثقافية من مجتمعك كلغة وأخلاق ومبادئ وقيم وتطبيقٍ لها وثقة بالذات تجعلك تشارك وتبدع وتنطق صارخًا بحقّكَ قد تخسره وكأنك عدتَ طفلاً جاهلاً لم يخضع بعد لاكتشاف أهم أساليب الحياة! ستعيش بين أربعةِ جدرانٍ منعزلاً عن المجتمع، وأنت جالسٌ على الشاشةِ، تصلك المعلومات "بكبسة زر" وتنسى أنَّ هناك جانبٌ معتمٌ أنت من أطفأته وعليكَ العمل على إضاءَتِهِ من جديدٍ! ستنسى كيف تنضمّ لمجموعةٍ معيّنة ذات هدف إيجابي، ستنسى كيفية التواصل مع الآخرين بطريقةٍ جيّدة فيها الثقة بالذات أساسٌ، ستسهم في تراجع نموّك النفسي وكذلك ستسهم في خسارة المجتمع آمالاً كثيرةً وتدّني نسبة نجاحه في الإندماج الإجتماعي وجعل أفراد الأمّة متماسكون متعاونون متضامنون.

هذه المكتشفات أيضًا تتوّقف إلى حدَّ سواء عند بعض الألقاب التي أصبحت تمثّل بعض البشر حيث فيها يتراكضون نحو الورقة التي ما دون قيمة "المال والسعادة" وهذه الألقاب هي "تيكتوكر" "بلوغر" "انفلوونسر". نرى اليوم العديد من المتفاعلين أصبح يمثّل تلك الألقاب فمن أجلِ الحصول على المال، ينشر فيديو معيّن أو صورة معيّنة فيفتح في ذلك خانة التعليقات وكأنّه يفتح قلبه للمتنمرّين، فبمجرّد سماحه للمتابعين بالتعليق على ما نشرَهُ ستزداد ملاحظاتهم، ويصبحون دكاترة في النقد التكنولوجي هناك من سينتقد وهناك من سيسخر وهناك من سيعطي ملاحظات وهناك من سينبهر بما حصل. لكن في الأخير《النشر واحدٌ》و《هدف الناشر واحدٌ》وهدفه دونَ فائدة على أيّةِ حالٍ فمن يحبّ أن يتعرّض للتنمر؟ ومن يحبّ أن يجلب لنفسه المشكلات النفسية فقط من أجلِ شيءٍ لا يدوم بل تبذيره مباشر؟ عبر منصّة تيكتوك  مئات آلاف المتفاعلين يظهرون عبر "For your page" وحسابهم مزّين بمحتوى ما، محتويات أكل، لباس ،غناء، وأخرى عنوانٌ للتفاهة والغباء والحمقى.

فمنذُ بعضِ الأشهر كنتُ أُشاهدُ منصة التيكتوك لأرى شابًّا عبرَ اللايف داخل المرحاض يردّد كلمة "أنا سمكة" ويمارس حركاتٍ تافهة فسألتُ نفسي ماذا يحدث لهؤلاء؟ أفهم المحتويات التي فيها من المنطق لكن ما المنطق من هذا؟ فهنا تكمّن عبودية البشر للتيكتوك وما يعطيه من مالٍ. ما رأيته دليلٌ أن البشر صفعوا صفعةً مزركشة من الغباء، أضاعوا نفسهم ودخلوا في كوما من الصعب الصحو منها بسرعة، كوما حبَّ المادّة والطمع بالعملة، فهل من قال "أنا سمكة" متيقّظ على ما يفعله؟ هل يعيش البطالة الأبدية فلا يمكنه أن يعمل بكرامةٍ فلجأ لفعلِ ذلك؟ هل نحنُ حقًّا أصبحنا نعيشُ في عالمٍ حيثُ الروح فيها إنتهت والمادّة مستمرّة في الإحياء و يوم عن يوم تزداد قيمتها؟

الأمرُ لا يتوّقف هنا، مثل صاحب "أنا سمكة" كثيرون آخرون يُنشرون محتوايات تخطّت مستويات التفاهة فإمّا يقفل حسابهم إمّا تبقى التعليقات تنهال عليهم كالعواصف الرعدية الهابّة على البشر في فصل الشتاءِ ففيها "كلمات سيئة وانتقادات لاذعة وعبارات قادرة على تدمير الذات المصنوع بألوان العلم والثقافة والقيم الإنسانية".

هذه المكتشفات تطال مظاهر النزاهة والشرف والإستقامة لدى الإنسان ففيها الجانب اللاأخلاقي كبيرٌ، حيثُ يتعلّم منه الإنسان مظاهرًا سيئة، يطبّقها مع الآخرين و يطبّقها أحيانًا في موقعِ عمله وأيضًا مع عائلته فتُصبح نظرة البشر إليه سيئة ويسهم في تراجع نمو المجتمع الثقافي والأخلاقي. 

في الخلاصة، المكتشفات قد تكون أقوى من الفرد فهي امتحانٌ للفرد لاكتشاف مدى ذكائه تجاهها، إمّا تسحقه أم تخسر هدفها معه، فهي قادرة أن تقتل ذهنه وقادرة أن تقتل فكره وقادرة، أن تقتل إلهامه وقادرة أن تجعله ميّتًا يتبعها ناسيًا مزاياه الخلقية وطباعه وغير مدركًا أهمية مشاعره و جانبه الأدبي المعبّر عن "نفسه". أيّها الإنسان، كن أقوى من المكتشفات، كن أقوى منها فقد تكون هي نفسها شياطين الحياة في بعضِ الأحيان، كن أنتَ، فإن نجحت إنجح بعملك وليس بعملٍ اصطناعي، وإن أبدعت إنجح بما صنعت وليس بما صنعته الماكينات والروبوتات! وليقوى عليك الهامك فقط ليس الإلهام الإصطناعي!